يورغـاكى .. المسكين

George A. Papandreou
George A. Papandreou

يورغاكى هو اسم الدلـع أو التدليـل أو التصغير باللغة اليونانيه لإسم يورغـو أو( جورج ) ويورغاكى المقصود هنا هو جورج رئيس وزراء اليونان الحالى وزعيم حزب الباسوك الحاكم وابن الزعيم اليونانى الراحل أندرياس باباندريو ( 1919- 1996) مؤسس حزب الباسوك أو ( الحركه الاشتراكيه اليونانيه ) الذي ترأس الحكومة اليونانيه ثلاث مرات وعرف بمواقفه المناوئة لواشنطن، ونجح في جذب اليونان خارج حلف الأطلسي وجعلها أحد
البلدان في حركة عدم الانحياز في زمن الحرب الباردة.
ويورغـاكى أو جـورج تولى رئاسة حزب الباسوك فى أعقاب وفاة والده الذى كان قد قاد نضالا مريرا ضد حـزب الديموقراطيه الجديـده الذى كان يترأسه خصمه العتيد الراحل(كونستانتينوس كرامنليس) الذى ترأس أول حكومه يونانيه بعد سقوط حكومة العسكر بزعامة بابادوبولوس .
إن اليونان التى تعيش أجواء الديموقراطية الغربية الحديثه منذ انهيار الحكم العسكرى ( حكم ببادوبولوس ) تتوارث أو تتقاسم الحكم فيه عائلتان عريقتان هما ( عائلة كرامانليس ) التى تتزعم حزب الديمقراطية الجديدة و( عائلة باباندريو ) التى تتزعم حزب الباسوك أو الحركه الهيلينيه الاشتراكيه رغما عن وجود العديد من الأحزاب المنافسة التى تزاحمهم على السلطه ، وكأن الحكم في هذا البلد وراثى مقصور على أبناء هاتين العائلتين التى ينتقل الحكم فيما بينهما بالوراثة من الآباء الى الأحفاد .
وقد ناضل يورغاكى نضالا طويلا من أجل الوصول إلى سدة الحكم ، وبالرغم من أنه فشل فى إزاحة خصمه ( كرامنليس ) عن كرسى الحكم مرتين متتاليتين ( 2004 -2007 ) إلا أنه لم يستسلم ولم يهنأ له بال وواصل النضال حتى تحقق له النصر واكتملت فرحته بالوصول إلى سدة الرئاسة في الانتخابات العامة التى جرت فى اليونان فى شهر أكتوبر من العام الماضى 2009 بعد خمس سنوات من النضال .إلا أنها على رأى المثل المتداول ( فرحه مـا تمت ) ، فلم يتذوق ( يورغاكى المسكين ) حلاوة النصر مثل ما تذوق فى السابق مرارة الهزيمه فقد ترك له خصومه السابقين ( آل كرامنليس ) الذين ازيحـوا عن السلطه خزانه خاويه وديون متراكمة وعجز مالي تجاوز أكثر من 300 مليار يورو. إضافة إلى بطالة مستفلحه وغضب واستياء جماهيري عارم يجتاح الشارع اليونانى فى الوقت الذى تنخر فيه الرشوة فى عظام أغلب مؤسسات القطاعين العام والخاص ويقول أكثر من 30% من اليونانيين ( لتراسبيرسى انترناشونال ) أنه طلب منهم تقديم الرشوة أو كما يسميها اليونانيين ( فاكلـو) مقابل حصولهم على خدمات عامه اوخاصه.
وقد ساهم هذا الواقع في تجسيد حقيقة أخرى وهى إن الحكومات اليونانية المتعاقبة من كلا الحزبين رغبة منها في كسب رضى الجمهور اليونانى كانت تسعى وباستمرارعلى نغنغة أو تدليع ( الشعب اليونانى ) بأى وسيله كانت ولا تطرح أى سياسة للتقشف خوفا من غضب هذه الجماهير وعلى العكس من ذلك كانت لا تتورع عن إثقال كاهل الدولة بالديون والإلتزامات من أجل نغنغة هذه الجماهير) شعب مرفه وغنى + حكومة فقيرة ) ودون إيلاء أى نظرة جدية لما سيترتب على هذه ( البعزقه ) من نتائج قد تكون كارثيه كما يحدث الآن فى عهد رئيس وزرائها الحالى .
وقد عرف عن المواطن اليونانى من أنه من أكسل مواطنى الدول الأوروبية ولا يعمل إلا لأيام قليله فى الأسبوع ويعشق الإضربات والسهرات وحب المظاهر والبذخ والإنفاق على الملابس والأكل والكسب دون تعب أو نصب ولا يعترف بأن اليورو الأبيض ينفع فى اليوم الأسود وإنما يطبق المثل القائل اصرف مافى الجيب يأتيك ما فى الغيب ولكن الغيب فى هذه المرة – أتى للأسف – بأزمه ماليه قاصمه ( تلبـك ) فيها رئيس الوزراء الحالى يورغاكى المسكين .
من هـو جورج ( يورغاكى ) رئيس وزراء اليونان الحالى ؟
هو حفيد جورج باباندريو (الكبير) الذي ولد في 1888 وتوفي في 1968، أحد كبار السياسيين الاشتراكيين اليونانيين،الذى ترأس أول حكومة يونانية بعد الحرب العالمية الثانية، قضى سنواته الأولى متنقلا بين كندا والسويد حيث تخصص فى دراسة علم الاجتماع وقد اتهمه خصومه السياسيين في مرحلة ما بالوقوع تحت التأثير الأمريكي لكون أمه( السويدية الأصل ) تحمل الجنسية الأمريكية. إلا أن خصومه عادوا للإعتراف بحنكته السياسية وقدرته كوزير للخارجية قبل عقد من الزمان، بعد ان نجح في رأب الصدع الذي كان قائما مع الخصم التقليدي لليونان ( تركيا) ، واستطاع بعد خمس سنوات فقط من المواجهة التي كادت أن تؤدي إلى صدام عسكري بين الدولتين بسبب النزاع على عدد من الجزر غير المأهولة في بحر إيجه التوصل إلى حل سلمي مع نظيره التركي في ضوء التوجه اليوناني الجديد إلى تأييد مطلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وهو معروف أيضا بمواقفه الدعمه للأقلية المسلمة التي كانت مهمشة والتى تتركز في منطقة تراكى شمال اليونان .
إن يورغاكى المسكين بعد هذا النصر الذى تحقق له بعد نضال مرير يواجه اليوم ضغوطا كبيره لتلبية مطالب الاتحاد الأوروبي بإتباع سياسة تقشف عاجله إذا ما أراد “تضامن أوروبا معه للخروج من هذه الأزمة القاتلة فى الوقت الذي تعم فيه البلاد المظاهرات والإضربات التى تهتف ضد سياسة التقشف مرددين الهتافات ” لن نرضخ للمزيد من التضحيات لمساعدة الأغنياء الذين بددوا أموالنا والذين عليهم هم أن يدفعوا الثمن وعلى الاتحاد الأوروبي أن يفهم أننا سنواصل الخروج إلى الشوارع للإطاحة بسياسة التقشف الغير النزيهة .”
لقد وصل الوضع فى اليونان إلى حد الانهيار ، حيث تجاوز عجز الميزانية 12 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، في حين تسمح معايير اتفاقية ”ماسترخت” بالمحافظة على 3 بالمئة، كحد أعلى، كما تجاوز الدين العام 113 بالمئة، مقابل 60 بالمئة المسموح به وفق اتفاقية الاتحاد النقدي الأوروبي مما قد يؤثر على منطقة ”اليورو” برمتها ، وعلى يورغاكى المسكين أن يبذل الكثير من الجهد لاقناع الناخبين الذين دعموه بقدرته القيادية وكفاءته السياسية بعد أن قضى السنوات الأولى من مسيرته السياسية تحت قيادة والده أنرياس باباندريو الذي منحه منصب الوزير وهو بعد في الثالثة والثلاثين من عمره ورغم ما يعتقد عن خطابه المعتدل إلا أننى أراه ( بحكم معرفتى به ) مقاتل هادئ شديد المراس وعليه أن يواجه الآن وبكل صرامة وتحدى المشاكل التاليه : –
أولا : إمتصاص غضب الجماهير بالداخل لعدم تقبلها لسياسة التقشف المعلنة لتقليص العجز العام وذلك بخفض النفقات العامة وزيادة العائدات باقتطاع 30 % و60% من مرتبات الشهرين الثالث عشر والرابع عشر لموظفي القطاع العام وتجميد الرواتب التقاعديه وزيادة القيمة المضافة والرسوم والضرائب المفروضة على الكحول والتبغ والكماليات .
ثانيا : عليه إذا ما أراد تضامن دول الاتحاد الاوروبى معه للخروج من الأزمة أن يقنعهم بجدوى اجراءات التقشف التى اتخذت وعليه مواجهة ضغوطات وتذبذب مواقف هذه الدول الداعيه إلى انتهاج سياسات تقشفية أكثر صرامة خاصة وأن بعضا من هذه الدول ( ألمانيا – هولندا ) قد صرح مسؤولوها عن عدم استعدادهم لتقديم أى وعود بمساعدات ماديه رغما عن المخاوف من الانعكاسات السلبية لهذه الأزمة على العملة الأوروبية اليورو. وذهبت ألمانيا بالذات إلى أكثر من ذلك عندما دعت اليونان إلى أن تبيع بعض من جزرها لمواجهة الازمه الأمر الذي دفع جورج باباندريو الى التصريح بأنه لا ينشد الاقتراض من شركائه بقدر ما ينشد “اعلانا واضحا وصريحا” منهم بأن اليونان “بلد ذو مصداقية يستطيع الجميع التعويل عليه قائلا ( اعطونا الوقت الكافي، اعطونا الدعم السياسي لا المادى – حتى نبين لكم أننا ننفذ ما نقول، وأننا أهل للثقة”) . وأعرب المتحدث الرسمى باسم الحكومة اليونانية بعد توارد هذه المواقف المتذبذه من قبل دول الاتحاد الأوروبى ( التى ترى أن اليونان قد استخدمت المساعدات الاوروبيه فى غير محلها ) أنه لا يستبعد لجوء اليونان الى صندوق النقد الدولي رغما عن أن هذا الإجراء قد يخضعها لضغوطات إداريه وماليه فى غاية الصرامه والقسوه .
ويضل الأمر فيما يتعلـق بحلحلة هذه الازمه مرهونا بالمواقف الحرجة والصعبة التي ستواجـه ( يورغاكى المسكين ) خلال زياراته القادمة إلى الولايات المتحدة وعدد من الدول الاوروبيه الاخرى ولا أستبعد ( شخصيا ) اذا ما عاد خال الوفاض من زياراته أن يحذو حـذو أوباما فى طلب المعونة من الدول النفطية الغنيه وخاصة من جارته الجماهيريه العربيه الليبيه التى ترتبط بعلاقات تاريخيه طيبه مع حزب الباسوك وربما سيلجأ أيضا إلى طلب العـون من السعودية وباقى دول الخليج .
وأخيرا فإنه من حسن الطالع بالنسبة لليونـان أنها عضو في الاتحـاد النقـدي الأوروبي وإلا لكان مصيرها الإفلاس لا محالة ، وستشكل هذه الأزمة الشديدة درسا وتجربة مفيدة للاقتصاد اليوناني، الذي سيتعافى بإذن الله بفضل المساندة الأوروبية .