كانت هناك لمسات اندلسيه حضاريه جميله ، يتحلـى بهـا سكان مدينة ” درنـه ” جلبتهـا معها العائلات الأندلسيـه التى نزحت إلى مدينة درنـه عن طريق دول المغرب العربى خـلال القـرن السادس عشر واستقـرت بها هربا من التعصب الصليبى الذى استهـدف المسلمين واليهـود على حـد ســواء بعد أفـول شمس الإسلام عــن الأندلـس
ومن ضمن هذه اللمسات الحضاريه حـب وعشق الزهـور والتفنـن فى تنظيم زراعتها داخل البيوت أو وخارجها، فى الشوارع وزوايا الأزقـه ،وعلى رفوف النوافذ أو بين الشرفات والسطوح … وكنت إذا ما سرت فى أى درب من دروب مدينة ” درنه ” أوفى أى زقاق من أزقتها تتسرب الى خياشيم أنفك رائحة الياسمين والورود والنسرين والريحان التى كانت تتسلق الحوائط والأسوار وتظلك أثناء تجوالك فى طرقاتها عرائش الكروم واشجار البرتقال وباسقات النخيل . وإذا ما أحسست أثناء تجوالك بالكلل أو الـم بـك العطـش وتاقت نفسك لشربـة من المـاء العـذب تتجه إلى أقرب ( المصاطب ) التى كانت تتحولـق حـول صنابير المياه الصافيه ، أو تتواجد بالقرب من المساجـد أو حـول نوافيـر الميادين الجميله ” البياصة الحمراء” المرصعه بفسيفسـاء البـلاط الأرجـوانى التى تنبجـس منها المياه الفضيه المتطايره فتتشابك ألوانها مع خيــوط أشعـة الشمس الذهبيــه.
وتمتــد هذه اللمسات الحضاريه الى داخـل بساتين ” درنه ” وحقولها التى حفلت بأشجار الموز والكروم ومختلف انواع الزهور والورود، والتى كانت تروى عن طريق شبكة من السواقـى المفتوحه تتدفـق فيها المياه بين السفوح والسهول وفـق نظام رى بديـع ، تتوزع من خلاله بين هذه المزارع والبساتين عن طريق قنوات رى يشرف على توزيع المياه المتدفقـه فيها بالتنـاوب متطوعين من أهــل المنطقه يطلـق علي أيـهم اسـم ( وكيـل الساقيـه ) يتـولى مسؤولية توزيع هذه المياه بالعـدل والمساواة بين هذه المزارع داخل كل منطقة وفقا لحصص وأوقات معينه أثناء فتـرات النهار أو حتى خلال سويعـات الهزيـع الأخيرمن الليل ، ومن خـلال تمتعك بهـذه السمفونيـه الجميله التى يختلط فيها حفيف أشجار الزهـور وخريـر المياه مع شقشقـة العصافير يتضـح لك مـدى حب وعشـق أهـل مدينة درنـه لزراعة الزهـور والورود ومختلف أشجارالفاكهه وكيف أنهـم تفننـوا فى رسـم لمسات هـذه اللوحة الزيتيه المعبره عـن طريق تمسكهــم ببقايـا الحضاره العربيه الأندلسيــه داخـل مدينتهم ” درنــه ” التى تفنـن العديد مـن الشعراء فى التغنى بجمالهـا ورقتهـا وعذوبتهـا وكـرم أهلها ” قلت لما رأيت درنه تباركـت ربى أحسن الخالقينا.
وكان من ضمن اللمسات الأندلسيه الجميله التى احتفظ بها سكان ” درنـه ” والتى كانت تزين فسيفسـاء عاداتهــم أنـه إذا ما حــل يــوم ” عاشوراء ” يهرعــون صباح ذلك اليوم رجـال ونسـاء وأطفاـل ، زرافات ووحدانا للقيام بزيارات للمقابـرالتى احتـوت رفـات أحبائهـم وأقربائهـم ، محملين بالزهـور والورود وأعراف الياسمين وأوراق شجر المـوز الخضراء وسعـف النخيل ، والأوآنى المعبأة بالمياه ، وهناك يتحلقـون حـول قبورأحبائهم يتحادثون ويتسامرون فيما بينهم مستعرضين سيرهـم وتواريخهم ، يسردونها فى شـوق وعبره لأبنائهم وأحفادهم المرافقين لهم ، وفى نهاية لقائهـم بأحبائهم سكان القبـور ، يودعونهم بكلمات مفعمة بالتديـن والإيمان ( أنتم السابقون ونحن اللاحقون ) ويقرأ الجميع كل حسب مقدرته وثقافته آيات من القران الكريم ( أو يستأجرون أحد الشيوخ لكى يقرأ تلك الآيات من الذكر الحكيم) ترحما وصدقه على أرواح أحبائهـم وأقاربهـم من ساكنى القبـور ، ثم يضللون هذه القبـور باوراق المـوز وأعـراف الياسميـن والأغصان الخضراء بعـد ان ينظفونهـا مـن بقايـا الأعشـاب اليابسـه والشوائـب، وينثرون عليها الورود التى أحضروها معهم ، كما يبللون ترابها وأعشابها برشات من قوارير المياه ويتركـون بعد ذلك ما تبقـى من المياه فى أوآنـى على قمـة تلك القبـور رحمة لزوارها من الطيـور والحشـرات ، كما يتصدقون بعد انتهاء الزياره بما توفـر لهـم من مال أو غذاء على الفقراء والأغراب المتواجدين عنـد مخارج المقبره.
وعنـد عـودتى بعـد هذه المده الطويلـه إلـى ارض الوطن ، بعـد ان تقاذفتنى أمـواج الغربه القاسيـة من دولــه إلى دولــه ، وانتزعتنى ظروف السفـر والترحال بعيدا عن أرض الوطن وعـن ” اسرتى الكبيره ” في درنه عشرات وعشـرات السنيـن ، وخـط الزمـن خلالهــا خطوطه التى لا تقهـر على جبينى محدثــة بـى العديـد من التغييـرات ووهن العظــم منى واشتعــل الرأس شيبـا ، ولم أعـد ذلك الشاـب الممشوق القـوام صاحب الشعر الأسود الممتلئ حيويه ونشاط ، قررت وكلى أمل وشوق أن أزور مدينتى ” درنـه “واخترت أن يكون موعد هذه الزياره صباح يوم “عاشوراء ” رغبة منى فى أرى أو أسترجـع على الطبيعه ولـو جـزء بسيط من ذكريـات تلك اللوحـه الزيتيه الجميلـه والرائعـة عن يوم ” عاشوراء ” بدرنــه
وكـم كانت خيبتى كبيره عندما استقبلتنى مدينتى ” درنـه ” وقــد خــط الزمن أيضا على جبينها – كما خـط على جبينى – خطوطه ( التى لا تقهـر) محدثــة بها العــديد من التطورات والتغييرات المؤسفـه والمؤلمه ، وأصبـت بالصدمه وبالإحباط عندما استقبلتنى بمدخلها الحـزيــن ، وقــد تهالكت على جانبيه بيوت مهلهله تشققت وتآكلـت جدرانها وأبوابها ، وأزقـه ضاقت بحوائطها الأسمنتيه ، وجفـاف أعـدم خضرة شبابها ، وتناثرت وتطايرت على جنبات بيوتها ودروبها أكداس من القمامه والأوساخ ، عبثت بها الرياح والقطط والكلاب يالله … أهذه درنه .؟ . يالله … أهذه حـوريه المتوسط .. ؟ يا الله …أهـذه ” زنبقــة ” الجبل الأخضرالتى كانت تتــزين وتتبرج بلمسات وأوشحة من حضارة الأندلس .. !!!! .. يالله … ماذا حدث لمدينتى …..؟؟ ماذا حل بدرنه ….؟ أيــن شوارعهـا وميادينهـا النظيفـه التى كانت تضللها الكـروم وتتسلـق حوائطها عرائـش العنب والنرجـس والفــل والياسميـن و تنتشر بين جنباتها سـواقى ونوافيـر المياه الصافيـه العذبــه ، تروى عطش أسراب الحمام والطيور… !! يا آلهى لــم تعـد ” درنه ” التى أمامى الآن … تلك الفتاه الحلوة الخضراء الجميله التى تتكلل بالورود والنيروز ويفوح العطر من جميع أردانها …؟؟ … ماذا حـدث لمدينتى التى ذاد عن حياضها وترابها واستشهـد فى سبيلها فرسـان الأندلس الأشاوس ، من أصحاب رسول الله … ماذا حدث لك يا درنه … يامدينتى …التى تحطمت على صخور كبريائك غطرسة المارينز الامريكى ( وليام ايتون ) ، فاقتلعوا علمهم ( الذى نصبوه فوق ترابك الطاهر ملطخا بدماء جنودهم ) مهزومين تاركين خلفهم قبورهم تشهد على هزيمتهم… !!! ماذا حدث … يا درنه … ماذا حدث لك … بالله…خبرينى …؟؟؟
ورغما عـن كآبتى وحزنى من هذا الإستقبال المؤلم ، واصلت تجوالى صباح ذلك اليوم والأمل لازال لم يفارقنى فى العثور ولو على جزء بسيط من بقايا ذكرياتى عن عطروبهجـة يوم ” عاشوراء ” ، وقادتنى قدماى بحثا عن هذا الجزء من الذكريات إلى مقبرة الصحابه ( التى دفـن بها 70 صحابيا ) لزيارة قبر والدى ( رحمه الله ) الذى كان قد دفـن بها ، وهناك وبعـد أن أديـت ركعتين بمسجد الصحابـه ( انزلتا السكينه والهـدوء فى نفسى وخففتا ما علـق بهـا من الكآبة والحـزن ) ، توجهت بعدها مباشره الى قبر والدى ، وجلست محاذيا له متفحصا ببصرى ما حولـه من قبور مجاوره متناثره ،وشددت بفبضتى على حفنة من ترابـه بكل قـوه وضغطتها بين أصابعى بعد أن بللتها بدموعى التى تحدرت غصبا عنى وأنا أتمتم فى خشوع ورهبه بأيات من القران الكريم ترحما على روحـه الطاهره ، ثم حررت حفنة التراب المبللـه بدموعى من قبضتى ، لتتناثرعلى قبـر والــدى ، ونهضت متثاقـلا مـن مكانى واتجهت صوب سور المقبرة المقابله ،حيث يوجد قبر والدتى ( رحمها الله ) والذى – للأسف – لم أتمكن من تحديد موقعـه ، بسبب اندثاره بين القبور المتراكمه، ورفعت يداى إلى السماء مبتهلا الى المولى عز وجل ان يغفر لها وأن يتقبلها برحمته الواسعه ، وأخذت أجـول ببصرى بين قبـور المقبره عساى أرى ولـو نفـر بسيط من تلك الجموع من العائلات الزائره المحمله بالزهور والورود وأراق الموز وسعف النخيل والمياه العذبه أو بعضا من تلك العصافير المشقشقـه ، أوالأعشاب الخضراء المتعانقه فوق القبور ولكن لاشى من كل ذلك .. لا شئ مما كان قد ارتسم بخيالى … !! .. لا شئ سـوى سكون مطبق مخيف ووحشة وحـزن عميـق يلف المكان الموحش ، وهـرولت مسرعا على عجـل خارج المقبره التى عبثت بها عـوارض الزمن هى الأخرى ( كما عبثت بجسمى) وكلى ألـم وحــزن بعـد أن ( فشلـت ) فى أن أجــدد ولـو جــزء بسيط متهالـك مـن ذكرياتى بين القبـور عن يـوم ” عاشوراء ” … متمتما ومرددا بينى وبين نفسى …بالله ماذا حدث يا درنه …؟؟؟ يا مدينتى الحبيبه …. ومن منا قــد تغيـر … أنـا … أم أنـت … ؟ مـن منا افتقــد أو فقد يوم “عاشوراء ” الأندلسيه .. أنـا أم .. أنــت … ؟ … باللـه ( يا درنه ).. ماذا حــدث ….. خبرينى …. ؟؟؟
عاشور مفتاح الإمام
تعليقات حول الموضوع |
يا حسرة |
عمر | الخميس, 25 شباط , 2010 |
قمت بي زيارة |
هذا ما حدث لي يا بني! |
زعيمة بنت الوطن | الخميس, 25 شباط , 2010 |
اجتاحنى الطوفان وعبثت بي رياح الغدر وسباني الغــول .. فقص جدائلي الطويلة وقطّع ثوبيالمخملي وسمـل عيوني العسلية .. ومـرّغ وجهي في التـراب .. ووقـف عند مقبـرة الصحابة فبـال فوقها مقهقها وألقى خطبــة عصماء حاول أن يجرد فيها تلك الأجساد الطاهرة الشريفة ،وأن ينال من تلك الجبال الشامخة والنفوس السامقة التي عايشت سيد الخلق ورويت من صفاء قلبه النوراني .. حدث هذا بعد أن غير سنته الهجرية ومنع الصلاة والسلام عليه وأظهر للعيان غيرته الجنونية من هذا الصيت الرباني وتلك المنح الألهية لحبيبه وأصحابه … تتساءل ماذا حــل بي يا بني…؟ وأين كنت وزملاؤك…؟ ألــم تشعرون بما حلّ بي ….؟ ألــم تسمعــون بذلك الزلزال الذي لم يجعلني وحدي تحت تراب الزمن وفي قاع هوة التخلف والفقروالبدواة …؟؟؟، بــل كانت معي أخواتي الأخريات من المدن التي كان من المفترض أن تزين جبين الزمن .. ماذا حدث لنا سوف يكتب بأقـلام مازالت تنبض في رحمي الذي لن يموت ، وفي خلاياي التي تنغص على الغول حياته لأنه على علم بأنه سوف ينتهي وأبقى .. وسوف يختفي وأظهر ، وسوف يهان وأكرم .. مازلت في داخلي مؤمنة صابرة مصابرة وإن كان ثوبي ووجهي مشوها .. وإن كان ألمي عظيما ومعاناتي طويلة .. فالإيمان مازال يملؤني ، وأرواح صحابة رسول الله تؤنسني ، والطيبون والصادقون مثلك تتحرك أمومتهمونخوتهم ليردوا لي اعتباري ولو بعـد حين … فجهز نفسك واشتري لأمكثوبا جديدا وعطرا فواحا وأقراطا من نجوم السماء التي أدعوك إلى أن تركـع تحتهـا طويلا صابرا مصابراً ، ومؤملا في روح الله .. هذه بشرى لك وسيظل قلبي يحضنك وعيني تنظـر مشتاقه إلى الأفق في انتظار طلعتك وطلعة إخوانك الذين طال بعادهم .. وسيعودون إلى حضني قريبا لتعود الشمس مشرقة والزهــور نابضة وتنطلــق الموشحات والقصائــد من حنايــا قلبي ومن حنايــا كل الليبيين ولا تقنطوا من رحمة الله … لاتقنطوا من رحمة الله …. وحماكم الله يابني… !! |
حضارة سادت ثم بادت. |
درناوي مهاجر | الخميس, 25 شباط , 2010 |
درنه مدينتي |
التصعيد وراء ذلك |
اندلسي | الجمعة, 26 شباط , 2010 |
الاندلسيين |
شكـرا لــك |
سميه الفلاح | الجمعة, 26 شباط , 2010 |
لقد شاهدتها درنه حزينه باكيه صدقنى لم أعرفها لقد كانت على قائمة ثالث أو رابع مدينه فى ليبيا من حيث عدد السكان والنشاط التجارى والسياحى واليوم أزيحت وتدمرت لتتحول إلى قريه وتتبوأ مركز رقم عاشر مدينه بدلا من 3 أو 4 والأخ الكاتب ربما تحـدث من جانب معاناتـه الشخصيه ولكن هذا لايعنى أنه منفـرد بهـذه المعانـاه وشكرا لك أخى الكاتب شكرا .
|
” بالله ياليبيا خبريني “ |
أحمد الحجازي | الجمعة, 26 شباط , 2010 |
الحديث ذو شجون ، والأفضل أن يكون هذا هو العنوان ، وأن يتوسع الحديث لا عن مدينة فحسب بل عن دولة وجيل وأمة . لك الله يا ليبيا |
يا دورنه خبرينى |
سلمان العراقى | الأحد, 28 شباط , 2010 |
اعتقد انني |
كسرو النافوره |
م . الشاعرى | الأحد, 28 شباط , 2010 |
خبر بالصورة |
|
لماذا لم يحافظوا عليها |
ثامر محمد | الثلاثاء, 2 آذار , 2010 |
ياسيدى الفاضل الأستاذ عاشـور الحضارات تنمو وتترعـرع فـى المجتمعات الحضاريـه وتندثـر وتتلاشى فى المجتمعات الفوضويــه وسكان هذه المدينه حسـب المقــال شعب له جــذور حضاريه ســواء كانت اندولسيه او اغريقيـه او بربريــه ، فكل هذه المجتمعات لها حضارات ولماذا لم يبـق سـكان هدذ المدينه على هــذه اللمسات الحضاريه … لقد شاهدت احد التعليقات يتحدث عـن تحطيم نافـوره اندولسيه … من حطمها لا اعتقـد الدولــه – التى نحملها دائما المسؤليه – هى من حطمها ، الذى حطمها هــم أبناء المدينه …. وبالتالى أسأل أنا .. لمادا لا يحموا أرثهــم الحضارى عــن طريـق تكويـن جمعيه أهليه تتولى حصـر هـذا التراث وتحميه من الإندثـار أوالتخريب أو الهـدم…. هـذه دعـوى اوجهها الى سكان هـذه المدينه التى سمعت الكثير عن |