قصتى مع كتاب ” نماذج من جرائــم القذافي” ..ء

رأيت داخل هذا المعسكر جسدا بشريا عاريا الا القليل، يتدلى من سطح احدى الغرف، وكانت الدماء تنزف منه ، وتتقاطر لتملأ الارض. الارجل قد شدت بوثاق الى الاعلى، والرأس يتدلى الى أسفل، وعصبة من أولي القوة، من رجال مخابرات القذافى وأعوانه من الكلاب المسعورة، يتجمعون حول الفريسة البشرية، يمارسون عليها طقوسهم الإرهابية ، فهذا ممسك بسوط افريقي، يجلد به الضحية وآخر شاهر مسدسه، يهدد به الجسد الخائر، واخر يركله بقدمه ويبصق عليه ويوجه له سيلا من الاهانات، ورابع ممسك بأوراق يطلب من الضحية التوقيع على اعتراف ما “.

كانت هذه الفقرات تصوير حى لأبشع جرائم التعذيب البشعة والمؤلمة التى نقلها لنا كتاب ” نماذج من جرائم القذافى ” والتى ارتكبت فى حق مواطنين ليبيين شرفاء تحت سمع وبصر مؤلف هذا الكتاب كشاهد عيان ، وسبق لصحيفة ليبيا المستقبل الموقرة ان اوردت فى احد اعداد شهر مايو الماضى أسم هذا الكتاب من ضمن أسماء عدد من إصدارات المعارضة الليبية الهامة

وهذا الكتاب ” نماذج من جرائم القذافي” الذى ظل اسم كاتبه سرا مطمورا منذ تاريخ اصداره أواخر عام 1983 وحتى يومنا هذا ، شكل صفعة قوية لنظام الطاغية لما تضمنه من حقائق مرعبة عن أسوأ جرائم التعذيب الوحشي التى مورست داخل أسوار ومعتقلات معسكر السابع من ابريل او كما كان يسميه أهالى بنغازى” حصن الباستيل

وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة، لأنه صيغ على لسان “شاهد عيان”، رأى بنفسه عن قرب أنواع التعذيب التى أرتكبت بمنتهى القسوة والوحشية فى حق مواطنيين ليبيين شرفاء ،وأبدع قلم الكاتب فى نقل هذه الصور الحية لمشاهد التحقيقات ووسائل القمع والتعذيب ، الى درجة أنه لم يغفل ذكر أسماء المعتقلين من هؤلاء الضحايا من الطلبه والرياضيين ورجال الأعمال والعسكريين ، الذين غصت بهم قاعات وحجرات المعتقل الرهيب ، كما لم يغفل أيضا ضمن هذا الإطار ذكر أسماء المجرمين الذين مارسوا صنوف وأنواع التعذيب أو من قاموا بشن حملات الإعتقال أو التحقيقات، وأورد الى جانب كل ذلك وصفاً دقيقاً لهذا المعسكر الرهيب شمل مداخله ومخارجه وبواباته وكافة تحصيناته . وقد تم وصف هذا السجن الرهيب وماكان يتم داخله من جرائم التعذيب ضمن أسلوب مؤثرجداً يغلف ليبيا عامة، وبنغازي بصفة خاصة، بسحابة من الحزن والكآبة والأسى ” كما أوضح ذلك الدكتور الفاضليى عند تعليقه على هذا الكتاب

هذا الكتاب الرائع الذى يعتبر من أهم إصدارات المعارضة الليبية فى إدانة النظام المقبور ، ظل أسم كاتبه مجهولا ولم يفصح عنه منذ تاريخ طباعته ونشره وتوزيعه وحتى يومنا هذا لظروف المرحلة السيئة من القمع والارهاب التى كانت تمر بها بلادنا والتى كان يمارسها النظام المقبور ضد العناصرالوطنية وعائلاتهم وأصدقائهم وأقاربهم داخل ليبيا وخارجها طيلة الاربعين عاما الماضية.

وكانت بداية معرفتى بمؤلف هذا الكتاب فى اثينا عام 1982 كان شابا وسيما انيقا معتدل القوام تعدى الخامسة والعشرين من عمره ، يتقد حيوية ونشاط ، يوحى جسمه المتناسق بتمتعه بصحة جيدة ، التقيته عن طريق الصدفة خلال دعوة على الغذاء فى بيت صهره ، وشاءت الصدف ان يكون مجلسى خلال هذا اللقاء بقربه ، فتبادلنا عبارات المجاملة المعهودة ، وتطرقنا من خلالها الى الحديث المتداول عادة بين الليبيين خلال مثل هذه اللقاءات عن هموم الوطن ومشاكله ، وامتد بنا الحوارالشيق حتى ساعات متأخرة من إحدى الأمسيات عندما افترقنا على امل ان نلتقى مجددا ، وتمت بينى وبينه بعد ذلك لقاءات متكررة فى عدة أماكن عامة كنا نحتسى خلالها الشاى أو القهوة وكان محور حديثنا دائما هموم الوطن ، وأحس كل منا بنوع من الثقة فى شخص الآخر ، وكان ضمن اطار هذه الثقة المتبادلة بيننا يسرد على سمعى فى عدد من اللقاءات حكايات وقصص مؤلمه عما شاهده شخصيا داخل معسكر السابع من ابريل فى بنغازى من جرائم بشعة يقشعر لها بدن الانسان ، ترتكب بدم بارد فى حق المواطن الليبى.

وفى إحدى هذه اللقاءات أفادنى بانه قد دون فى مذكرات سرية خاصة عن كل ما شاهده من جرائم التعذيب البشعة التى مورست بمنتهى الخسة والنذالة من قبل مجرمى اللجان الثورية فى معسكر السابع من ابريل ، واخرج لى من بين صفحات مجلة مصورة كان يحملها هذه المذكرات التى كتبت بخط اليد وطلب منى الإحتفاظ بها ومراجعتها ودراسة امكانية نشرها وتوزيعها ، ولثقتى الكبيرة فى شخصه استلمتها منه ، وطلبت منه أن يمهلنى اسبوعا كاملا كى يتسنى لى الإطلاع عليها والإتصال بمن سيعمل على مساعدتنا فى طباعتها ونشرها . والحقيقة نالت هذه المذكرات بما احتوته من معلومات قيمة وهامة إعجابى وتقديرى ، ودفعنى هذا الاعجاب الى الاتصال الفورى بأحد زملاء المعارضة فى الخارج ورجوته الحضور الى اليونان للإطلاع على هذه الوثيقة الهامة ووعندما حضر هذا الزميل الى اليونان ، اجتمعنا ثلاثتنا فى بيت أحد الاصدقاء وتم الإتفاق على إخراج هذا الوثيقة الدامغة لنظام القذافى الى النور باسرع مايمكن تحت اسم مزور أو شاهد عيان .

واليوم وبعد ان أنعم الله علينا وعلى شعبنا الليبى بالخلاص النهائى من نظام الطاغية وتحررت ليبيا من القمع والارهاب فانه إحقاقا للحق وإنصافا لصاحب هذا الحق الذى ظل إسمه حبيس الصدر طيلة هذه المدة الطويلة أرى انه آن الاوآن لكى إعلن وبكل الفخر لأسرته الكريمة ولأصدقائه ولكل من يعرفه أن أسم مؤلف هذا الكتاب ” شاهد عيان “هو المرحوم الشاب عبد الناصر عمر مسعود دريزة الذى توفى عام 1996 ،اثر مرض عضال لم يمهله كثيرا ، علما بان الحركة الوطنية التى تبنت مشكورة اصدار هذا الكتاب وعملت على نشره وتوزيعه ، رأت لأسباب أمنية ان يشار الى كاتبه كشاهد عيان تحفظا على حياة المؤلف وعلى حياة من توسط فى ربط العلاقة بينه وبين الحهة التى مولت نشر هذا الكتاب وتوزيعه ، نعم لقد كان المرحوم الاستاذ “عبد الناصر عمر مسعود دريزة ” هو شاهد العيان الذى نقل لنا بكل امانة وصدق وبكل وطنية من خلال قلمه المعطاء الصور الحزينه والمؤلمه عن جرائم القذافى فى معسكر السابع من ابريل فى بتغازى

وللمعلومية فإن المرحوم بعد لقاء له فى “أثينـا ” مع أحد أزلام النظام ” كان يدرس فى بريطانيا ” ، جاء خصيصا لزيارته أقنعه هذا الأخير بأن يسافرا معا الى ليبيا ، وفعلا سافرا معا ، والتقيا خلا ل هذه الزيارة مع القذافى وأحمد ابراهيم فى الساحة الخضراء بسرت على وليمة خاصة حضرها عدد محدود من أعوان النظام المعروفين .. وعند عودة المرحوم من هذه الزيارة الى اليونان ، لاحظنا انه وهو الشاب الذى كان ممتلئا نشاطا وحيوية تحول فجأة الى انسان هزيل مريض يشكو من تضخم فى عضلة القلب ، الأمر الذى استدعى تحديد موعد عاجل له فى لندن مع الدكتور ” مجدى يعقوب ” الذى أكد بعد فحصه ان حالته ميؤوس منها ولا يمكن التدخل الجراحى فيها وانه سيعيش فقط على بعض العقاقير المخففه ، ولم تمض فترة طويلة على عودته من لندن حتى توفى رحمه الله فى أوائل فبراير من عام 1996

فالمرحوم عبد الناصرعمر مسعود دريزه هو شاهد العيان مؤلف كتاب ” نماذج من جرائم القذافى” … واللهم اشهد بانى قد بلغت وأزحت عن كاهلى عبء الإحتفاظ بهذا السر لأكثر من ربع قرن تقديرا وعرفانا بوطنية هذا الشاب راجيا من المولى عز وجـل ان يشمله بواسـع رحمته وغفرانــه.. ولا نامت أعين الجبنـــاء