.مهمة خطيرة

 خلال فتـرة الحكم الملكي فى ليبيا بعـد نيل ليبيا إستقلالها في عام 1952 فرضت الدولة الليبية الناشئة حينها حضراعلي تأسيس الأحزاب السياسية أو المشاركة فيها ، وذلك تحت ضغوطات مارسها شيوخ وزعماء القبائل الليبية الذين كانوا يشكلون فيما بينهم ركائز الدولة الليبية الجديدة ، وعلي إعتبار أن كل ممنوع مرغوب ،فقد شجع هذا التصرف على نشأة وظهور  الأحزاب السرية التى ساهم فى تأسيسها ودعمها عـدد من المثقفين والطلبة الليبيين العائدين إلى حضن الوطن بعـد اتمام دراساتهم فى بعض جامعات الدول العربية مثل  ” مصر والعراق وسوريا والاردن ” وساهمت ايضا الجامعة الليبية بعد تأسيسها فى بنغازى عام 1956 على تنامي هـذه  التنظيمات السرية بين عدد كبير من المواطنين ، وكان من أبرز الأحزاب السرية التى عرفت بانتشارها خلال الستينات والسبعينات بين صفوف طلبة الجامعة الليبية سواء فى بنغازي أو طرابلس أربعة أحزاب نشطه هي حسب انتشارها بين الأوساط الطلابية ” حزب البعث العربي الإشتراكي – حزب الإخـوان المسلمين – الحزب الشيوعى – الحـزب القومي ” ،  إلا أن حزب البعث العـربي الإشتراكي  فرع ليبيا تأسس فى فترة الخمسينات ، وكان من أبـرز مؤسسيه في ليبيا المرحوم عامر الطاهر الدغيس وكان من انشط الاحزاب السرية فى ليبيا واكثرها تنظيما وتأثيرا على الاوضاع السياسية ولم تكـن مسيرته سهلة أوميسرة حيث تعرض لإنتكاسات وحملات أستهدفته واستهدفت منتسبيه ، سواء اثناء العهد الملكى أو فى عهد النظام الجمهوري إلا أن العهـد الملكى ( للتاريخ ) لـم يكن قاسيا أودمويا فى التعامل مع قياداته التي تعـرضت للملاحقة والتتبع والإعتقال خلال العهدين الملكى والجمهوري علي حـد سواء بسبب تنامي شعبيته وانتشاره ، فيما عدى أن العهد الملكى فى تعامله مع  منتسبي الحزب كان أقـل صرامة عكس تعامل العهد الجمهوري الذي كان شرسا بربريا عندما عذب وأعـدم أبرز قيادات الحزب

وشهد فجر يوم الأحد الموافق 23 /07 /1961 فى مدينة طرابلس خلال فترة العهد الملكي بداية الإعتقالات لقيادات حزب البعث العربي الاشتراكي وذلك فى اعقاب إكتشاف السلطات الامنية توزيع عـدد من المناشيرالمنددة بالنظام الملكى ورموزه ، وقـد عاصرت شخصيا أحـداث تلك الفترة عندما كنت في زيارة لطرابلس لظروف العلاج ، نزلت فيها ضيفا على أسرة إبن عمى المرحوم الحاج صفى الدين الإمام وتصادف وجودي في طرابلس مع تواجـد زميل عزيزعلي من مواطني طرابلس هوالاستاذ نصرالدين محمود أحد أنصارومنتسبي حزب البعـث العربيى الذي كانت تربطني به علاقة صداقة خاصة في الجامعة الليبية فى بنغازى ، وكان يزورنى اثناء فترة علاجي فى طرابلس بالمصحة ثم بمنزل ابن عمي أثناء فترة النقاهة ويصطحبني بعض الأحيان فى سيارته للفسحة اوالجلوس والهدرزة فى أحد مقاهى المدينة حيث نتجاذب اطراف الاحاديث عـن آخـرالمستجدات على الساحة الليبية والعالـم العـربي

  وفى ظهر يوم الاحد بتاريخ 23 /07 /1961 فوجئت بإتصاله بي هاتفيا مبديا رغبته في رؤيتى ، خاصة وأنه كان على علم باننى عائد الى بنغازى ظهـر يـوم الأثنين 24 /07 /1961، وفعلا تـم اللقاء بيننا فى بيت إبن عمي ، ولاحظت عليه عند اللقاء بيننا أنه علي غير عادته كان فى حالة من الإرباك والقلق ،وبعـد أن جلسنا بصالون بيت إبن عمي وارتشفنا معا قهوتنا أخبرنى بتعـرض عدد زملائه للإعتقالات من قبل رجال الأمن الليبي ، وأن الإعتقال قـد يطاله هـو ايضا فى أي وقت ، اذا ما ذكـر أسمه أثنـاء التحقيقات الجارية مع زملائه ، وطلب منى مساعدته فى نقل رسالة خاصة شفهية عاجلة لأحد صديقين له فى بنغازي هما المرحوم محمد حمى فريد أوالدكتور محمد الجرارى فى بنغازى تتضمن احاطتهم بإعتقالات طرابلس وتحذيرهم بأن يعدموا كل الوثائق والمستندات التى بحوزتهم وأكد لى بأنه أختارنى لهذه المهمة الصعبة لثقته التامة فى شخصى خاصة وأن سفري يوم الاثنين الموافق 24 يوليويعتبر الوسيلة السانحة السريعة لنقل خبر الإعتقالات الي علم زملائه فى بنغازي ، وبما أنني من المنطقة الشرقية ولست من منتسبي الحزب فلن تحوم حول سفري من طرابلس الي بنغازي أية شبهات أو شكوك خلال تلك الظروف التى شهدت انتشارأمنيا مكثفا فى كل أنحاء طرابلس

والحقيقة أبديت فى البدء ترددا للقيام بهذه المهمة الغير معروف عواقبها خاصة وأننى لست مجبرا أيدولوجيا  للقيام بها رغما عـن عمق صداقتى  مع زميلى نصرالدين محمود الذي وذلك خوفا من أن يكون صديقي ربما يكون تحت المراقبة من قبل رجال الأمن ، وبالتالي اتعرض للخطر وأجد نفسى متورطا فى قضية لا ناقة لى فيها ولا جمل ، ولكن تحت الحاح زميلي الذي أعـزه كثيرا أبديت موافقتي على القيام بهذه المهمة الصعبة طالما أنها رسالة شفهية ووعدته بتنفيذها بمجرد سلامة وصولى الى  مدينة بنغازى

 وفعلا بمجرد وصولى الى بنغازى حاولت الإتصال هانفيا بالأستاذ محمد حمى عدة مرات ولكن وجدت هاتفه مغلق فتوجست خيفة ان يكون الرجل قـد تعـرض للإعتقال ، فاتصلت بهاتـف الأستاذ محمد الجـرارى وأرتحت عندما سمعت صوته وطلبت منه أن نلتقي  للضرورة اذا امكن فاستجاب لى ، وأعطيته عنوان بيتى اذا فى امكانه زيارتي وفعلا وصلنى فى الموعد ونقلت له الرسالة الشفوية التي كلفت بها وطلبت منه كما طلب مني نقلها عاجلا لزملائه فى مدينتي بنغازي ودرنه ، فشكرنى علي ذلك  كثيرا ، ثم  بعد ان اديت مهمتى  وأبلغت الرسالة توجهت الى سكنى للراحة من عناء السفرومر اليوم الاول واليوم الذي بعده وانا في حالة خوف وقلق من أن يتم استدعائي ، ولكن مرت الأمور بسلام

وعلمت بعد ذلك ان الرسالة الشفهية العاجلة الموجهة من قبل الاستاذ نصر الدين محمود بطرابلس الى الاستاذ محمد الجرارى ساهمت بشكل كبير فى أخذ الحيطة والحذر من قبل قيادات الحزب فى كل من بنغازى ودرنه ، ولم يعثر رجال الأمن عند القبض علي أعضاء الحزب وتفتيش بيوتهم ومكاتبهم على أى مستندات او مراسلات تدينهم …إلا أنهم رغما عن ذلك تعـرض بعض من كان أسمه مدرجا أساسا ضمن قوائـم الحـزب  التي عثرعليها في طرابلس وتعرض هؤلاء للإعتقال أوالسجن لفترات قصيرة تراوحت مابين 6 أشهر وثلاثة أعوام ، الأمرالذي تسبب بعـد ذلك فى تجميد نشاط الحزب

الا ان الحزب عاود نشاطه بزخـم أقـوى وأشـد ضراوة خلال عام 1969 واستعاد عافيته فى مواجهة النظام العسكرى وتصدرت قياداته ومنتسبية حملة المقاومة والعصيان ضد النظام عام 1980 فى الداخل والخارج مما تسبب فى تتبع وملاحقة قياداته ومنتسبيه وتعرضوا من جـديد الى حملة بشعه وشرسة من الإعتقالات والإغتيالات راح ضحيتها ، عـدد من رموز قيادت الحزب مثل الأساتذه عامرالطاهر الدغيس ، محمد حمي فريد  ، مصطفى رحومه النويرى و محمد الصادق هلال إضافة إلى تصفية الأستاذ منصوررشيد الكيخيا بعدهم بمدة طويلة عندما أختطف غـدرا من القاهـرة  إلي ليبيا بالتواطؤ ما بين اجهزة الاستخبارات المصرية والليبية حيث أعدم سرا في ليبيا

وفى آخرعام 1980 نجح منتسبي حزب البعث فى ليبيا، بالتعـاون مع مجموعة من الناصريين والقوميين الليبيين بالخارج ، فى الإعلان عـن تأسيس “الحركة الوطنية الليبية ” التى توالي علي رئاستها  كل من الأستاذ عمران أبورويس ، الأستاذ عمر الأبيض ، الأستاذ محمد السكر وكانت مجلة صوت الطليعة التى كانت تطبع فى بغـداد وقبرص تعتبر لسان حال الحركة الوطنية الليبية الى جانب عـدد من النشرات الأخرى التي كان يصدرها أنصار الحركة الوطنية الليبية في أمريكا وأوروبا كنشرة الرقيب الليبى والمهاجر الليبي والمواطن الليبي والمنبر الليبي التى كانت توزع بصورة دورية

ثم اندمجت الحركة الوطنية الليبية مع عدد من حركات النضال الوطنى الليبي بالخارج ضمن منظومة التحالف الوطني الليبي الذي أسس عام 1986 وأختيرالمرحوم منصوررشـيد الكيخيـا أمينا عاما له وذلك بعـد أن أعتـذرعـن ترأسه السيد عبد المنعـم الهونى تحت ضغوطات مورست عليه من زملائه أنصار النظام الليبي كما أشيع حينها