سماعة الهاتف التي نقلتني من روما الي طرابلس

سماعة الهاتف التي نقلتني من روما إلي طرابلس

فى الأول من شهر يوليو 1972 أستلمت عملي بالسفارة الليبية فى روما وكلفت فيها بمهام الملحق الصحفي ومتابعة شؤون الأحزاب والمنظمات والهيئات السياسية فى إيطاليا، كما كلفت أيضا عام 1973 مندوبا لليبيا لدي المنظمة الدولية للأغذية والزراعة ” الفاو” خلفا للزميل عبد الباري خليل الذي كان منتدبا من قبل وزارة الزراعة في ليبيا ،وكانت السفارة الليبية خلال تلك الفترة تعـج بأعـداد كبيرة من الموظفين المنتدبين من العديد من مؤسسات الدولة ، كما كان يعمل بها أيضا عـدد من ضباط الجيش وضباط الأمن أنتدبواعلي وظائف بالسلك الدبلوماسي منذ عام 1970 وكان جل العاملين بالسفارة عبارةعن خليط غير متجانس أو منضبط ، وكان يتردد عليها عـدد مـن مسؤولي الدولة بصفة تكاد تكون مستمرة وكلما حل بالعاصمة الإيطالية أي من كبارالمسؤلين يتسابق ويتنافس هذا الخليط من العاملين بالسفارة الي زياراتهما في فنادقهم لتقديم الخدمات وفروض الولاء والطاعة ، وفي فترة عملي  هذه بالسفارة في هذا الجو الغير منضبط  والغير متجانس مرت بي حادثتان كان لهما تأثير كبيرعلى استقراري في عملي بالسفارة

الحادثة الأولي تمثلت في أن مجلة أودجي الايطالية الشهيرة نشرت خلال السنة الثانية علي ما أعتقد من عملي بالسفارة مقالا يسئ الي سمعة أصول رئيس الدولـة الليبية ، وجاء ذلك المقال خلال ظروف من التوترالسياسي شهدته العلاقات الليبية الإيطالية ، سبب طرد الألاف من المستوطنين الايطاليين من ليبيا عـام 1970، وما أدي إليه ذلك من تداعيات وتأثير في الرأي العام الإيطالي …وطلب مني حينها الزميل القائم بالإعمال الرد علي ذلك المقال فورا ، إلا أنني أرتأيت التريث مراعاة  لحساسية المقال ولأن الرد قد يصبغ عليه أهمية أكبر مما يستحقه خاصة وأن بعض الصحف الإيطالية الأخرى مثل صحيفة “لا ستامبا”أغادت نشرالمقال علي صفحاتها ، ورأيت ارسال نسختين من المجلة التي نشرت المقال مع ترجمة له الي وزارة الخارجية طالبا تعليماتهم بالخصوص ، واحتفظت بنسخة من المجلة ” تحوطا ” في درج مكتبي ، واستلمت بعد مضي يومين تقريبا ردا مختصراعلي المقـال من قبـل ادارة الاعلام الخارجي بالوزارة وكان مضمون ذلك الرد إن لـم تخني الذاكـرة كالآتي …. ” أنا معمر القذافي أحتج علي مقال مجلتكم  بتاريخ ….وأنفي ما ورد فيه عـن شخصي ويبدو انكم خلطكم في مقالكم بين إسمى واسم ” فـلان الفلاني ” الذي ربما يكون هـومن تقصدونه….. التوقيع … معمر القذافي “

والحقيقة أن ذلك الرد كان صادما لي لا لكونه قد وردنا باسم معمرالقذافي شخصيا وانما لان أسلوب صياغته بإلصاق التشهير الذي ورد في المقال بطرف آخركان غير منطقي وتوافقت وجهة نظري مع وجهة نظر زميلي القائم بالأعمال ولكن لا يمكننا تهميش ذلك الرد تغيير صياغته حتي لا نقع فى المشاكل خاصة وان السفارة كلهـا آذان صاغية ، فقمنا بترجمة الرد كما وردنا تماما الي الإيطالية وأرسلناه الي المجلة طالبين أن تنشره بنفس الصفحة التي نشر بها المقال السئ ، وبنفس الكيفية ولكن المجلة – بخبث منها – قامت بنشره في باب منزوي مخصص لردود وتعليقات القـراء ، وارسلنا نسختين من عدد المجلة الذي نشر به الرد إلي ديوان الوزارة وأحتفظت أنا كالعادة بنسخة من المجلة  المتضمنة للرد في مكتبي للرجوع اليها عند الحاجة

وبعد قرابة اسبوعين اكتشفت اختفاء كل نسخ المجلة التي كنت قد أحتفظت بها من مكتبي علما بانني واثق تمام الثقة باحتفاظي بها في مكتبي ، وأربكني جـدا هـذا الأمر ،خاصة وأنني  دائما حريص على قفل مكتبي ولا أتركه مفتوحا تحت أي ظـرف من الظـروف إلا إذا كنت بداخلـه ، وحتي أثنـاء فتـرة تنظيفه مـن قبـل العاملة التي كانت تتولـي تنظيـف المكاتب في السفارة ، وقد أقلقني جـدا هـذا الحـدث وساورني الشك بأن مكاتب السفارة مخترقة ونقلت بسبب هذا الشك كل خصوصياتي إلي بيتي منذ ذلك التاريخ وعملت بصمت وهدوء علي فحص كل أجـزء مكتبي وأثاثـه وحتي مصابيح الإضاءة للتاكـد من خلـوه من أي أجسام غريبة

الحادثة الثانية جاءت بعد فترة من حادثة موضوع مجلة أودجي وذلك عندما أكتشفت وجود شفرة تجسس زرعت في سماعة هاتف مكتبي ، وجاء هذا الاكتشاف عن طريق الصدفة ودقة الملاحظة حيث كنت متعودا في بعض الاحيان على فتح سماعة هاتفى لمسحها وتنظيفها وكان أن تفاجأت بأن لاقط الصوت المثبت بسماعة هاتفي ” جديد لامع” يختلف عن لاقط الصوت الذي كنت متعوداعلي رؤيته عندما أقوم بالعبث بسماعة هاتفي والذي كان يعلوه صدأ خفيف الأمر الذي أثار شكوكي ، خاصة وأنه كانت لدي بحكم إطلاعي فكرة عن اساليب التجسس علي الدبلوماسيين وتسآلت بيني وبين نفسي حينها هل تم تغيير ذلك اللاقط في مكتبي فقط أم انه طال بعض مكاتب السفارة ..؟؟ وأبتدأت شكوكي تحوم وتتجه إلي الضن في افراد العائلة الايطالية المقيمة بالسفارة والتي تتولي تنظيف كافة مكاتبها والتي قد تكون جندت من الإستخبارات الإيطالية ، وأبلغت  شكوكي الي زميلي القائم بالاعمال فنصحني بالصمت والتريث وعدم اثارة الموضوع  حتي يتابعه بهدوء ، ولكني بحسن نية لم التزم الصمت  كما طلب مني وسربت الخبر إلي أحد زملائي الموثوق به عندما طلبت منه فحص سماعة هاتفه ، فتوزع الخبر داخل السفارة ، الامر الذي أغضب القائم بالاعمال بالسفارة، لأنه كان يود معالجة  ان يظل الموضوع  سريا ، ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن ، حيث تدخلت اجهزة الامن والاستخبارات بالسفارة التي مسها الموضوع والتي كان أحد أفرادها هو من زرع ذلك اللاقط  التجسسي في هاتفي ورفعت شكوي ضدي عاجلة لعلم وزيرالخارجية “رئيس جهاز الأمن الخارجي” الذي كلف أحد العسكريين بدرجة سفير في ديوان الوزارة بالسفر الي روما للتحقيق في موضوع الشكوي الملفقة ضدي ، ولكن السيد السفير (…….) الذي كلف بذلك التحقيق رحمه الله  لم ألتقيه بتاتا حتي يومنا هذا ويبدوا أنه أعد تقريره وفقا لما أملي عليه

بعد مدة ليست بالطويلة فوجئت بقرار نقلي الي طرابلس بناء على نتائج التحقيق وانا لم يمضي على وجودي بالعمل بالسفارة سوي عام ونصف تقريبا وجاء هذا القرارالمتعسف في فترة كانت  المرحومة ابنتي حينها تعاني بمعرفة السفارة من مرض السكري الذي ابتدأ ينهش في أجزاء جسمها الصغير وتعاطف الزميل القائم بالأعمال مع هذا الظرف الصحي لأبنتي فأرسل في الاسبوع الاول من شهراغسطس 1974 كتابا إلي وزارة الخارجية يطلب منها فيه تأجيل نقلي مراعاة للظروف الصحية لابنتي وتجاوب السيد مدير ادارة الشؤوالادارية المرحوم عبد الستار الثلثي مع كتاب القائم بالاعمال فأبرق بتاريخ 14 /08 /1974 بتأجيل نقلي الي اشعارآخر، ولكن لم يمض اسبوعان علي استلام السفارة لبرقية تأجيل نقلي حتي فوجئت بتعليمات لاحقة مشددة من وزير الخارجية تصرعلي تنفيذ نقلي الي ليبيا فى موعد اقصاه الاول من شهر اكتوبر 1974

وامام هـذا التصلب والعناد والاصرارعلي النقل مـن قبل الوزيرشخصيا اقترح علي القائم بالأعمال أن أذهب الى طرابلس لمقابلة الوزيـروإقناعه بظـروفى ، واستحسنت هـذا الرأي وسافرت إلي طرابلس وكلى أمـل فـى أن أنجح في أقناع الوزير المتصلب بإلغاء أو تأجيل نقلي ، وفي طرابلس نزلت بفنـدق البريـد بشارع البلدية ومنه توجهت صباح اليوم التالى الى وزارة الخارجيه بزاوية الدهماني ولكن للأسف لم اتمكن من مقابلة الوزير خلال يومين من ترددي على مبني الوزارة بسبب كثرة المترددين علي مكتب الوزير، ولكن سكرتير الوزيرتعاطفا منه مع مشكلتي اقترح أن أنتظر فرصة خروج الوزيرمن مكتبه وأعرض عليه مشكلتي وفعلا أستحسنت المقترح ، وتسمرت واقفا فى الممر في مواجهة الباب الخاص لمكتب الوزيرمنتظرا على احر من الجمر لحظة خروجه الا ان الحرس  طلبوا مني  الا أنتظر في مواجهة المكتب … فأنتظرت في نهاية الممر مترقبا خروجه ، وبعد مرور قرابة الساعة وانا في انتظارممل خـرج وكـان برفقته وكيل وزارة الخارجية ومدير الشؤون الادارية والسفير سعد الدين أبـو شويرب فانتهزت تلك الفرصة السانحه وتقدمت محييا الوزير وضيوفه مقدما له نفسى إلا أننى فوجئت بمجرد أن ذكرت  له اسمي بتجهم سحنة وجهه ولم يوليني اى اهتمام  ثم التفت لي في كبر وغطرسة قائلا ” عليك الإلتزام بتنفيذ قـرار نقلك فـورا وحاولت مقاطعته في فورة نرفزته قائلا ” ولكن سـيدى أريـد أن أوضح لك بأن إبنتي الآن طريحة الفراش في أحـد المصحات بروما بمعرفة السفارة الليبية ، فقاطعني بحدة صارخا في وجهي ” نفذ التعليمات وأحضر أبنتك ولوعلى باريله” ثم  نظر لي نظرة  مملؤة بالحقد قائلا في تهكم ” خلى ابن عمك  وزير الصحة يعالج لك بنتك “….وفعلا أثارني هذا التهكم الغير مبرر منه أمام ضيوفه  ففقـدت التحكـم فى أعصابي ورددت عليـه بنفس اسلوبه الوقـح الأمر كان مفاجأة غير متوقعه للجميع أندفع على أثرها حرسه الخاص الي  محاولة الانقضاض علي  لولا تدخل  المرحوم سعد الدين أبو شويرب وعبد الستار الثلثي اللاذان جذبواني بقوة وهما ينهرانني  بعيدا عنه حرسه الخاص وجرجراني الي الدورالأرضي لمكتب مديرالشؤون الادارية حيث  أقفلا المكتب علي وقدما لي  كوبا من الماء البارد وعملا علي تهدئتي من وقع الصدمة بكلمات تطمينية

وبعـد هذا اللقاء العاصف مع الوزير، تأكـدت أنه لا أمل فى إقناعه لان موضوع نقلي  كما علمت  من المرحوم مدير الشؤون الإدارية والمالية هو اجراء امني بالدرجة الاولي وأنه حاول شخصيا مع الاستاذ عبد العاطي العبيدي ان يقنعا الوزير بتعديل قرارنقلي بحيث يكون إلى ميلانو بدلا من ليبيا إلا أن الوزير كان مصراعلي عودتي إلي ليبيا ، وعدت ادراجى حزينا الى الفندق ودلفت الى حجرتى والقيت بجسمى المنهك بكامل ملابسى على سريرى متعبا يائسا قانطا إلا من رحمة الله ولا ادرى كيف داعبنى النعاس وانا في تلك الحالة من الإحباط واليأس لأنام قرابة ثلاث ساعات متتابعة لم يوقضنى منها الا رنين جرس الهاتف وكان المتكلم عامل الاستقبال بالفندق  اخبرني بان  شخص ما ينتظرني بصالة الفندق ، فنزلت مسرعا لاستقباله وفي الحقيقة لم اكن اعرفه من قبل وبعـد أن بادرنى بالتحية والسلام أفادنى بانه مرسل من طرف ” فلان ” وسلمني مظروف صغيرموجه لي ، ورغما عن اننى دعوته للهدرزة ومشاركتي فنجان من القهوة فى صالة الفندق إلا أنه شكرني وأعتذرلي بشدة  وخرج مسرعا ، وبعد خروجه فتحت المظروف وانا لا زلت واقفا بصالة الاستقبال فوجدت بداخله ورقة صغيره كتب فيها بخط اليـد ” عزيزي عاشورآسف جدا جدا لما حدث معك اليوم بمكتب الوزيرأرجوك أن تغادر طرابلس الى روما ان امكن اليوم قبل الغد….تحياتي

  هذه الكلمات الموجزة الغامضة سببت لي ربكة وتوجست خيفة ان يكون قد حدث مكروه لأبنتى التي تركتها مريضة فى روما ،الأمر الذى دفعنى على الفور أن اطلب من موظف الإستقبال بالفندق إيصالى هاتفيا بالمصحة التي توجد بها ابنتي بإيطاليا ولم ارتح من اضطرابي الا بعد ان ردت علي أبنتي ووالدتها وعرفت انهم بخير ومن باب ثقتى الكبيره في صديقي قمت علي الفور بمغادرة طرابلس الي روما في نفس اليوم   

وفى الاسبوع الثاني من شهر نوفمبر 1974 فوجئت وأنا منقطع عن العمل في روما بزيارة امين محفوضات السفارة الليبية لي في بيتي  ليسلمني تعليمات عاجلة ” برقية ” موجهة لي  شخصيا باسم وزير الخارجية مؤرخة في 07/ 11 / 1974 يطالبنى فيها بالعودة فورا الى ليبيا ، ولكني لم التزم بتنفيذ التعليمات ولا زلت احتفظ  بهذه البرقية كما استلمتها للذكري والتي  كشفت لى سرالمظروف الغامض الذى طلب فيه منى صديقى بديوان الوزارة مغادرة طرابلس عاجلا اذ أنه كما يبدو لو تأخرت عـن تنفيذ نصيحته لما تمكنت من العودة الى أسرتى في روما والدليل علي ذلك استلامي لهذه البرقية العاجلة تطالبني بالعودة فورا الي ليبيا ، ولم أعد إلي ليبيا الا بعد في منصف شهر ديسمبر 1974 بعد هروب الوزير نهائيا الي روما ، فعدت ونفذت قرارنقلي الي ليبيا  في جومن  من الأمن والإطمنان …. واستقبلت من قبل  زملائي المسؤولين بالوزارة بكل الحب والتقدير وتم ترقيتي مع دفعتي  إلي درجة مستشار   .