إلى أمين العـدل.. أنا أخـرس وأعمى وأطرش

قادتنى قدماى مجبرا إلى مبنى مجمع المحاكم بطرابلس بناء على استدعاء منهم لأداء الشهادة فى قضية تتعلق بأحد الأصدقاء واضطررت أمام إلحاح هذا الصديق واحقاقا للحق ان اتغيب ذلك اليوم عن عملى بسبب أداء هذه الشهادة وأن أعلق ايضا بعضا من التزاماتي الرسمية والعائلية.. وتجشمت مشقة في الوصول إلى المجمع ذلك الصباح بسبب اكنضاض طريق السكة المؤدى للمجمع باعداد كثيرة من السيارات المتراصة داخله ومشقة ايضا في البحث عن مربط (موقف ) اركن به (شقفتى) المتهرية ..أقصد سيارتى
وبعد أن أعياني البحث عن مربط لها دون جدوى أضطررت إلى أن أركنها على أحد الأرصفة بالمخالفة.. وليس امامى الا ان افعل ذلك ، وتنفست الصعداء بعد أن تمكنت من حشرها على الرصيف بين عدد من الشجيرات ، وانطلقت مهرولا إلى مبنى المجمع الكبير.. ودلفت مسرعا داخل ممراته بحثا عن القاعة التي سوف تنظر فيها القضية التي قدمت من اجل الإدلاء بشهادتي فيها.. وفرحت عندما شاهدت في آخر (الكوردور) المحامى المكلف بالقضية الذي قادني إلى ركن منزوي من الممر الطويل حيث أعلمني بأنه يأسف أشد الأسـف عما سببه لي من تعب وإرهاق وانه يعتذر لي لأن القاضي لــم يأت بعد وأنه سوف يتأخر ربما لساعتين وانه ما علينا إلا الانتظار وقوفا فى هذا الممر الضيق وليس أمامنا غير ذلك ….!!! فأومات له برأسي بالموافقة دون ان انبس ببنت شفة بعـد أن أعياني الكلام من شدة الإرهاق.
وفعلا بعد أن مرت هاتان الساعتان المملتان الطويلتان ونحن نتزاحم وقوفا او مشيا فى الممر دون وجود أي مقاعد تريحنا من عناء الوقوف في هذا الجو الحار، لكزنى المحامى فجأة لكزة فى كتفى كادت ان تفقدنى توازنى وسحبنى بقوة وهو يجرجرني مهرولا بي داخل الممر لكي نلحق بحامل ملفات القضايا الذي استبقنا يتبعه حشد يتراكض من المحامين والمواطنين وكأنه بهذه اللكزة يعلمني بأن الأمور قد هانت طالما الملفات قد حملت لعناية القاضي.
ثم اندفعنا جريا خلف حامل الملفات ضمن هذا الحشد الكبير من المهرولين ، نساء ورجال وعجائز ومحامين، نتدافع في الممر الطويل الذى قادنا إلى إحدى الحجرات الضيقة التي لا يزيد حجمها عن (16 متر مربع) والتي لم تستطع استيعاب ربع عدد المهرولين فلفظت معظمنا خارجها وقوفا أو استنادا على حوائط الممر .
وبدأ القاضي في استدعاء المحامين وأصحاب القضايا بصوت مبحوح ومنخفض لا يصل إلى أسماعنا نحن المتكدسين خارج الحجرة في منظر لا إنساني يتصبب العرق منا من شدة القيض وضيق المكان وفينا المريض والمسن والعاجز عن الوقوف وتساءلت أليس هناك صالات مخصصة تنظر فيها القضايا تكفل الاحترام لآدمية المواطن الليبي الحر السيد وأجابني المحامى بابتسامة ساخرة “خــرف يا شعيب”.!
وقال لى لقد تعودنا على أن تظل الصالات مقفلة ولا تنظر القضايا إلا في مثل هذه الحجرات الضيقة التي هي عبارة عن مكاتب لا تتسع إلا لموظف أو موظفين فقط … كما أوضح لي بان الأمر ليته توقف عند ذلك فقط فالمواطنون يشكون أيضا من أن موظفي المجمع يتقاسمون دورات المياه فيما بينهم ويقفلونها ولا يسمحون للمواطنين المكدسين في الممرات باستخدامها فيضطر الكثير منهم (وخاصة المرضى) إلى الخروج إلى خارج المجمع لقضاء حاجاتهم بين السيارات المكدسة هناك.

وبعد فترة طويلة من الانتظار الممل والقاسى جـاء دوري كشاهد ففرحت لكي أنهي هذا الواجب الصعب أو بالأحرى هذه المصيبة التي تورطت فيها. ودلفت الى حجرة القاضى بصعوبة من بين الاجساد البشرية المتكدسة على باب الحجرة وبعد ان تحقق سعادة القاضى من وجودى بهذه الحجرة طالبا بطاقتى الشخصية للتأكد من باقى التفاصيل التى تحملها البطاقة طلب منى اداء القسم أمامه بان أقول الحق ولا غير الحق .. فأقسمت القسم الذى طلب منى اداءه وقام المدون الذى كان يجلس على منضدة صغيرة ملاصقة لمنضدة القاضى بتدوين هذا الاجراء فى ملف القضية الى امامه كما قام بعد ذلك بترجيع بطاقتى الشخصية بعد ان دون ملاحظته ثم نادى المدون بعد ذلك على محامى القضية الذى كان يقف هو الآخر بجانبى مستفسرا منه ايضا عن بعض المستندات التى لم يجدها فى ملف القضية وبعد نقاش بين المحامى والقاضى قرر القاضى فى نوع النرفزة تاجيل النظر فى القضية الى نهاية شهر يوليو مع الزام المحامى باحضار نفس الشهود (وبالطبع من ضمنهم العبدلله ) وذلك لتكرار الادلاء بشهادتى او التأكيد عليها بعد أن تكتمل مستندات القضية … والشهر القادم هو شهر اغسطس الذى ترتفع فيه درجات الحرارة الى اعلى معدلاتها فكيف سيكون حالنا داخل المجمع في فى تلك الممرات وداخل تلك الحجرة اللعينة الضيقة .
ولا حـظ المحامى ما ألـم بي من ضيق ونرفـزة فأخذ يخفف عنى ما تجشمته من نصب وتعب مؤكدا لي بان الشهادة من الدين وان الصامت عن الحق “شيطان اخرس”. فصرخت في وجهه بعـد أن فقدت اعصابى وبلغ بي الغضب أشده
لا لا ..أنا منذ اليوم شيطان ولن لن أحضر مثل هذه المعاناة مرة اخرى لا لن اكرر هذا المآساة ..فأنا منذ اليوم إن طلبت للشهادة فى اى قضية داخل المحاكم الليبية سوف اصمت عن الحق واكون “شيطان اخرس وأعمى وأطرش”