سماعة الهاتف التى عجلت بنقلى الى طرابلس

مع منتصف عام 1974 تقرر نقلى للعمل بإحدى السفارات الليبية فى الخارج كسكرتيرأول الا انه لم يمضى على تعيينى للعمل بالسفارة سوى عام واحد حتى فوجئت بتعليمات عاجلة ومشددة تقضى بوجوب عودتى فورا الى ليبيا وكانت إبنتى خلال تلك الفترة طريحة الفراش تعانى من السكرى فى أحد العيادات المتخصصة فى عاصمة البلد الذى كنت مكلفا بالعمل به، وجاء قرار نقلى (كما برر) نتيجة للتحقيقات التى أجريت فى اعقاب خلاف بسيط كان قد وقع منذ اكثر من ستة شهور بينى وبين زميلى القائم بالاعمال، علما بان هذا الخلاف كان قد سوى وديا داخل البعثة الليبية إلا أنه ولظروف كنت اجهلها فى حينه اتخذت نتائج هذا التحقيق فجأة وبلا مقدمات سببا ومبررا لنقلى دون مراعاة لما سيترتب على هذا النقل من اضرار جسيمة خاصة واننى خلال هذه الفترة القصيرة من تواجدى فى العمل بالسفارة تجشمت دفع نفقات مادية كبيرة، اضافة الى أنه جاء فى فترة كان فيها الوضع الصحى لابنتى فى منتهى السوء، والأغرب من ذلك كله أنه جاء بعد انقضاء اكثر من أربعة أشهر على خلاف كان قد سوى بينى وبين القائم بالاعمال.

وبالرغم من ان القائم بالأعمال ارسل كتابا بالخصوص الى ديوان وزارة الخارجية يطلب فيه منها اعادة النظر فى هذا القرار المجحف مراعاة للظروف الصحية التى تمر بها أبنتى ولقصر المدة التى قضيتها فى العمل بالسفارة إضافة الى ان السيد عبد العاطى العبيدى نائب وزير الخارجية فى ذلك الوقت كان قد تفضل مشكورا باقتراح نقلى للعمل بالقنصلية الليبية بميلانو بدلا من عودتى الى ليبيا تخفيفا لما سيلحقنى من اضرار، إلا أن سعادة الوزير ركب رأسه ألغى هذا المقترح وأصر على عودتى فورا الى ليبيا.. وامام هذا التصلب والعناد من قبل سعادته أشار على زملائى بالبعثة أن أذهب الى طرابلس لمقابلته شخصيا والعمل على اقناعه وجها لوجه بظروفى.

وفعلا استحسنت هذا المقترح وسافرت الى ليبيا وكلى امل فى ان انجح فى مهمتى هذه، ونزلت فى فندق البريد بشارع البلدية بطرابلس وفى صباح اليوم التالى توجهت الى وزارة الخارجيىة لترتيب لقائى بسعادة الوزيرعن طريق سكرتيره الخاص الذى أفادنى بان الوزير مشغول وانه لا يستطيع تحديد اى موعد لى معه الا بعد ثلاثة أو أربعة أيام، واقترح على بدلا من تحديد موعد رسمى قد يطول امد انتظاره أن أحاول مقابلته مقابله عابره عند خروجه من مكتبه وذلك بان أنتظره فى الممر المقابل لباب مكتبه مباشرة حيث انه – وكما أفادنى – فى كثير من الاحيان لا يخرج عن طريق حجرة السكرتير لكى يتحاشى المترددين على مكتبه ويفضل الخروج مباشرة من الباب الثانى لمكتبه، لمكتب وفعلا عملت بنصيحته، وتسمرت مستندا الى الحائط فى مواجهة الباب الجانبى لمكتبه منتظرا على أحر من الجمر خروجه، وبعد مرور أكثر من ساعة ونصف من الانتظار الممل فتح باب مكتبه وخرج سعادة الوزير هو و برفقته كل من وكيل الوزارة ومدير الشؤون الادارية والسفير سعد الدين ابو شويرب، وانتهزت الفرصة وتقدمت اليه محييا اياه و مقدما له نفسى ومتهيئا لعرض مشكلتى عليه، إلا أننى فوجئت بتغير سحنة وجهه فجأة بمجرد سماعه لاسمى وصرخ فى وجهى بانفعال وغضب دون ان يمهلنى لتكملة حديثى معه ” عليك بتنفيذ قرار النقل فورا ولسنا ملزمين بعلاج ابنتك وأحضرها ولوعلى (باريله) زيها زى الليبيين اللى يتعالجوا هنا او خلى ابن عمك الدكتور مفتاح الاسطى عمر يعالجها لك فى الخارج.

والحقيقه ان هذا الرد المشحون بالكراهية بهذا الأسلوب التهجمى كان مفاجأة غير متوقعه لى أزعجتنى وأربكت كل من كان حولى، ولما كنت فى حالة من التوتر والقلق الشديدين لم يترك لى تصرفه هذا أى خيار سوى ان أرد عليه بنفس الأسلوب الذى بادرنى به الأمر الذى دفع السيد سعد الدين ابوشويرب ووكيل الوزارة الى سحبى بعيدا عنه وعن حراسه الى اسفل السلم المؤدى الى حجرة السيد مدير الشؤون الادارية والمالية، وهناك أجلسانى على أحد المقاعد وقدما لى كوبا من الماء البارد و حاولا بكلمات تطمينية التخفيف من وقع الصدمة المؤلمه على شخصى والتهدئة من روعى.

وبعـد هذا اللقاء العاصف مع السيد الوزير تأكدت انه لا أمل لى فى إقناع هذا المتعجرف بأن يلغى قراره المجحف وهذا ما لمسته أيضا اثناء تبادلى الحديث مع مدير الشؤون الاداريه الذى اكد لى ان الوزير مصر اصرارعجيب على قراره رغما عن المحاولات التى بذلت منهم ومن السيد عبد العاطى لنقلى لمكان اخر يتوفر فيه متابعة علاج ابنتى.

وفعلا عدت ادراجى الى الفندق حوالى الساعة الرابعة مساء متعبا يائسا قانطا إلا من رحمة الله ودلفت الى حجرتى والقيت بجسمى المنهك بكامل ملابسى على سريرى الذى اخذ يئن هو الآخر تحت ثقلى وكأنه يشاركنى آلامى وإحباطى… ولا ادرى كيف داعبنى النعاس بعد ذلك لأنام ثلاث ساعات متتابعة لم يوقضنى منها الا رنين جرس الهاتف بجانبى، وكان المتكلم عامل الاستقبال بالفندق يفيدنى بان هناك شخص ما ينتظرنى فى صالة الفندق، وتوقعت ان يكون هذا الزائر احد اصدقائى من العاملين بديوان الوزارة فنزلت درج الفندق مسرعا الى الصالة من أجل استقباله، وفى الصالة التى كانت فى مواجهة سلم الفندق تماما وجدت نفسى امام شخص غريب لم يسبق لى وان تعرفت به اوقابلته وبعد أن بادرنى بالتحية والسلام،أفادنى هذا الغريب بانه مرسل من طرف زميلى (فلان ) وسلمنى مظروف صغيرمغلق ودلف بعد ان ودعنى على عجل الى خارج الفندق، وبعد خروجه مباشرة وانا لا زلت واقفا بالصالة فتحت المظروف ووجدت بداخله ورقة صغيره كتب فيها بخط اليـد (آسف أننى لا أستطيع الاتصال وأرجوك ان تغادر طرابلس الى مقر عملك فورا وعلى اول رحلة)، وقد سببت لى هذه الكلمات الموجزة و الغامضة قلقا شديدا وتوجست خيفة ان يكون قد حدث لأبنتى مكروه اثناء غيابى، الأمر الذى دفعنى على الفورأن اطلب من عامل الاستقبال بالفندق ايصالى باسرتى فى الخارج عبر مكالمة دولية،وجاءنى صوت زوجتى عبرسماعة الهاتف هادئنا مطمئنا لى بان اوضاعهم جيدة وان الوضع الصحى لابنتى فى تحسن مستمر الأمر الذى ازاح جزء كبير مما لحقنى من القلق والتوتر، إلا أن طلب مغادرتى لطرابلس فورا بهذه الكيفية الغامضة زاد من حيرتى خاصة وانه لم يكن بامكانى الاتصال بصديقى، وشعرت بان وراء هذا الطلب ” ســر” لم يشأ صديقى ان يفصح عنه بوضوح لاسباب يعرفها هو وحده ولا اعرف عنها شيئا ومن باب ثقتى الكبيره فيه قررت ان انفـذ طلبه لى بالمغادرة فورا “وليكن ما يكون”.

وفعلا فى الصباح الباكر ابلغت الفندق بعزمى على المغادرة، وبعد ان سددت لهم أجرة اقامتى، خرجت الى الشارع مصطحبا حقيبة سفرى الصغيرة ورميت بجسمى فى أول سيارة أجرة مرت من أمام الفندق متوجها رأسا الى مطار طرابلس، وهناك وبعد محاولات استعطاف لممثلى شركة ” اليتاليا ” فى المطار تـم وضعى على قائمة الانتظار، إلا انه ولحسن الحظ عندما حلت ساعة الإقلاع للطائرة كنت قد تمكنت من الحصول على تأكيد حجزى، وفى الطائرة حاولت ان استرجع شريط كل مامر بى من مواقف خلال هذه الرحلة المؤلمة وربط أحداثها بما ورد فى هذه الرسالة القصيرة المحيرة التى ارسلها لى صديقى إلا اننى فشلت فى التخمين وتقاذفتنى العديد من الأفكار المختلطه والتخيلات المتضاربه.

وبعد ان حطت الطائرة فى مطار الوصول بعـد ساعات قليلة من اقلاعها من طرابلس، هرولت مسرعا الى خارج المطار متأبطا حقيبة سفرى لاستقل إحدى سيارات الأجرة متوجها مباشرة الى العيادة التى تتواجد بها ابنتى، وكـم كانت سعادتى كبيرة عندما استقبلتنى ابنتى المريضة وهى على سريرها بالاحضان والقبلات فرحة برجوعى اليهم بصورة غيرمتوقعة، وبالطبع لم أشـأ ان اخبرهم بفشلى فى مهمتى وكتمت عنهم ذلك. (نسيت هنا ان اوضح لكم بان مرض ابنتى من السكرى كان نتيجة عملى فى ظروف صعبة بالباكستان عندما اصيبت بالتهاب السحايا ولم يتم معالجتها الا بحقنها بالانسلين بمعدل ستة حقن يوميا لمدة سبعة ايام الأمر الذى تسبب فى تدمير جهاز البنكرياس عندها).

وفى اليوم التالى لعودتى لمقرعملى بالخارج وعندما كنت فى ببيتى خلال ساعات القيلولة مستلقيا فى نوع من الإسترخاء المريح على إحدى الكنبات بصالون الإستقبال، أفاقنى من هذا الإسترخاء رنين مزعج لجرس الباب مصحوبا بطرقات خفيفة، فقمت متثاقـلا لفتحه متوقعا ان يكون القادم إبنة الجيران التى كانت تأتى فى مثل هذا الوقت من القيلولة للعب مع إبنتى إلا أن توقعى لم يكن فى محله إذ أن القادم لم يكن ابنة الجيران وانما كان ” امين المحفوضات بالسفارة ” وبرفقته السائق يحملان لعلمى برقية عاجله بتعليمات موجهة لى من قبل سعادة وزير الخارجية يطالبنى فيها بالرجوع فورا الى ليبيا، و بعد ان سلمنى أمين المحفوضات صورة من البرقية طلب منى التوقيع على الأصل بالاستلام. والحقيقة أن هذه البرقية ” التى لازلت احتفظ بها كما استلمتها ” قـد كشفت لى سرالورقة الصغيرة التى استلمتها بفندق البريد بطرابلس والتى طلب منى فيها صديقى مغادرة طرابلس “عاجلا ” اذ لو تأخـرت عن تنفيذ نصيحته ولم اغادر طرابلس لما تمكنت بعد ذلك من العودة الى اسرتى التى كانت تنتظر رجوعى بفارغ الصبر.

وبالطبع عندما ربطت بين صدورقرار نقلى المبرمج الذى جاء بناء على تعليمات سعادة الوزير استنادا لمبررات مختلقه ورفضه لكل المحاولات والمراسلات التى قدمت له من اجل تاجيل هذا النقل او تنفيذه بالنقل الى بعثة اخرى وورود هذه البرقية العاجلة المطالبة بعودتى الى طرابلس فورا، كل هذه الإجراءات المتتالية والمترابطه من قبل السيد الوزير أثارت الشكوك عندى ودفعتنى فعلا الى التريث وعدم الرجوع الى ليبيا خاصة بعد أن اميط اللثام عن الدوافع الحقيقية التى كانت وراء اتخاذ هذا القرار والتى لاعلاقة لها بنتائج التحقيق المزعومة والقصة الحقيقية التى كانت وراء نقلى بهذه العجالة وبهذا الاصرار هى كالآتى.

كان من عادتى ان اتفحص هاتف مكتبى فى اى بلد أجنبى أكلف بالعمل به تخوفا من التجسس على اتصالاتى من قبل اجهزة امن الدولة المضيفة وهذا تحوط امنى من صميم طبيعتى وتعودت عليه،وتشاء الصدف اننى فى أحد الايام عندما قمت بفحص سماعة الهاتف بمكتبى من جهة لاقط الصوت (المكرفون) ان اجد ان لا قط الصوت القديم الذى كان يعلوه بعض الصدأ والذى تعودت على رؤيته قد حل محله لاقط جديد، فاثار هذا الأمراستغرابى و شكوكى وقمت فى نفس الوقت بنزعه من الهاتف ورجعت به الى البيت، واتصلت باحد العاملين بشركة ” سيمنز” عن طريق احد الاصدقاء الليبيين فحدد لى موعد للقاء به، وطلبت من الخبير بشركة سيمنز عند لقائى به رأيه فى هذه القطعة فتفحصها مليا ثم سألنى مبتسما أين وجدتها….؟؟ فقلت له ليس مهما أين وجدتها… ولكن بربك قل لى ما بها…!! هل هى جهاز تصنت فأجابنى.. والابتسامة لازالت ترتسم على محياه… نعم…. وسأثبت لك ذلك… ثم ادخلنى الى مكتبه وقام بتركيب لاقط الصوت فى جهاز هاتفه ثم احضر راديو به موجة ” ف. م ” وطلب منى أن اتحدث من هاتفه مع أى رقم اختاره ففضلت مكالمة زوجتى بالبيت وخرج هو الى حجرة مجاورة حاملا معه الراديو وبعد أن اتممت حديثى مع زوجتى واغلقت سماعة الهاتف، كانت المفاجأة ان أعاد على سمعى حديثى مع زوجتى كاملا وواضحا وذلك عن طريق شريط تم تسجيله من خلال الراديو، وبعد ان شرح لى الكيفية التى يتم بها التصنت على الهواتف عبر الراديو تأكدت ان هذا اللاقط الذى أحضرته للفحص هو جهاز تصنت و رجوته ان يغيره لى بلاقط صوت عادى، وفى اليوم التالى قمت بتركيب اللاقط العادى فى جهاز هاتفى بالمكتب واتصلت بالقائم بالاعمال عن حسن نيه وافدته بالقصة كاملة على اساس ان امن الدولة المضيفة يتجسسون على مكالماتنا وطلبت منه فحص جهاز هاتفه هو الآخر للتأكد من خلوه من اللاقط التصنتى.

ونسيت بعد ذلك هذا الموضوع الى أن ذكرنى به السيد (…..) القائم بالأعمال الجديد الذى كان قد حل محل القائم بالاعمال السابق حيث اوضح لى خلال هذا اللقاء عندما استرجعنا معا قصة قرار نقلى العجيب الذى رفضت تنفيذه فى حينه بان اللاقط التصنتى الذى كان مزروعا فى هاتف مكتبى لم يكن من فعل مخابرات الدولة المضيفة وانما كان قد زرع من قبل أجهزة الأمن الليبية وان اكتشافى لهذا اللاقط التصنتى واشاعتى لهذا الأمر بين عدد من العاملين بالسفارة لم يكن مقبولا من وزارة الخارجية، وكان سببا فى صدور القرار العاجل بعودتى الى طرابلس واتخذت قصة الخلاف المزعوم بينى وبين القائم بالأعمال مبررا للتغطية على الدافع الحقيقى للنقل، والحقيقة انه لم يكن يدور بخلدى آنذاك أن هذه الأجهزة قد زرعت فى هواتف السفارة من قبل المخابرات الليبية بقدر ما كان ضنى أنها زرعت من قبل أجهزة أمن الدولة المضيفة، وكان تصرفى الذى قمت به نابع من احساسى بالمسؤلية وعن حسن نية إلا ان الرياح تأتى بما لا تشتهى السفن والمثل الليبى يقول ” صاحب العلة ينغزنه مرافقه ” وفعلا عندما اتضحت لى هذه الحقيقة لم أعد الى طرابلس ومكثت فى البلد المضيف الى ان أزيح سعادة وزير الخارجية عن منصبه وحل محله الوزير الجديد الذى أكرم وفادتى وعودتى الى ليبيا.