المناضل محمد أحمد السكـر.. بعيـدا عـن الأضـواء

تأسس حـزب البعث العـربي الاشتراكي في ليبيا، في اوائل الخمسينيات، وكان من أبـرز مؤسسيه الأستاذيـن “عامر الطاهر الدغيس و منصور رشيد الكيخيا” ولم تكـن مسيرة الحزب في ليبيا مسيرة سهلة ميسرة. فقد تعرض لانتكاسات وحملات استهدفت الحـزب وقادتـه ومنتسبيه، اثناء العهد الملكى، وكذلك فى عهد نظام القذافى الا ان العهـد الملكى (للتاريخ) لـم يكن قاسيا او دمويا فى التعامل مع هـذا الحزب الذى كان من انشط الاحزاب السرية فى ليبيا واكثرها تنظيما وتأثيرا على الاوضاع السياسية خـلال العهـدين.
واعتقـل بعض من مؤسسسى حـزب البعـث وقياداته وعـدد من منتسبيه خلال منتصف عام 1961 فى طرابلس فى اعقاب توزيع عـدد من المناشير المنددة بالنظام الملكى وبعدد من رموزه ، وكنت خلال تلك الفترة طالبا بالسنة الاولى بجامعة بنغازى ومتواجـدا عن طريق الصدفة بطرابلس لظروف صحية،واتصل بى الزميل نصر الدين محمود زميلى بالجامعة واحـد المنتسبين لحـزب البعث الاشتراكى الذى كان متواجدا هو الآخر بطرابلس أثناء حملة الاعتقالات هذه، وطلب منى بصورة شخصية فى مطار طرابلس اثناء مغادرتى الى بنغازى بأن اقوم بإيصال رسالة شفوية عاجلة الى المرحوم محمد حمى أو الاستاذ محمد الجرارى بما تعرض له تنظيم الحزب فى طرابلس اعتقالات، لكى يأخذوا حذرهم ويعملوا على اعـدام كافة المستندات والوثائق الخاصة بالتنظيم السرى للحـزب فى كل من بنغازى ودرنه، ولم اتمكن من الاتصال الا بالسيد محمد الجرارى فى بنغازى الذى ابلغته بفحوى الرسالة فى حينها، وساهمت تلك الرسالة بشكل كبير فى اخذ الحيطة والحذر ولم يعثر رجال الامن على اى مستندات او ادانات دامغة، ورغما عن ذلك فقد تعرض عدد من قيادات التنظيم للاعتقال والسجن لمدد قصيرة تراوحت مابين 6 اشهر وثلاثة اعوام مما تسبب فى ان يجمد الحزب نشاطه منذ عام 1966 لفترة محدودة.
الا ان الحزب عاود نشاطه بزخـم أقـوى وأشـد ضراوة عام 1969 بعـد نجاح انقلاب القذافى على النظام الملكى واستعاد عافيته فى مواجهة النظام العسكرى وتصدرت قيادته ومنتسبية بكل شجاعة حملة المقاومة والعصيان ضد عسكرتاريا النظام عام 1980فى الداخل والخارج، مما تسبب فى تعرض قياد الحزب من جديد الى حملة اعتقالات واغتيالات بشعة راح ضحيتها، عدد من رموز قيادته مثل الاستاذ “عامر الدغيس” و”حسين الصغير” و”محمد حمي” و”محمودبانون” ومصطفى النويرى واحمد عبدالسلام ابورقيعه ومحمد الصادق هلال الذى لم يعرف مصيره حتى الآن بالاضافة الى مجموعة أخرى من العسكريين .

وفى آخر عام 1980 نجح انصار تنظيم حزب البعث ومنتسيبه فى ليبيـا، بالتعـاون مع مجموعة من الناصريين والقوميين العرب والوطنيين الليبيين بالخارج، فى الاعلان عن تأسيس” الحركة الوطنية الليبية” التى سعـت الى ربط حركة النضال الوطنى بين مختلف التحالفات السياسية الوطنية الليبية التي تؤمن بـحرية الرأي، وحرية الصحافة، وحرية العمل السياسي وتأسيس الاحزاب عبر دستور عصري يبنى علي السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية… وكان قد ترأس هذا التحالـف الشهيـد منصـور رشـيد الكيخيـا.
وكانت مجلة صوت الطليعة تعتبر لسان حال الحركة الوطنية الليبية والمعبرة عن توجهاتها الى جانب عدد من النشرات الاخبارية التى كانت توزع بصورة دورية كنشرة الرقيب الليبى ، والمهاجر الليبي، والمواطن الليبي، والمنبر الليبي، التي كان يصدرها انصار الحركة في كل من بريطانيا ، أمريكا، اليونـان، مصـر والسويـد.
واذكـر بهـذه المناسبة ان السلطات الليبية ممثلة بالمكتب الشعبى الليبى باليونـان طلبت رسميا من وزير الاعلام اليونانى منع بيع وتوزيع مجلة “صوت الطليعة” فى الاكشاك اليونانية وارسلت السلطات الليبة بهذه المناسبة عـدد من قطـع السجاد الليبى الفاخرالمنتتج من مصنع بنى وليد وبعض الهدايا الى وزير الاعلام اليونانى لحثه على التجاوب مع طلباتها… ولكنه رد علي المكتب الشعبى، بانه ليس فى مقدوره ان يقوم بمنع دخول هذه المجلة او منع توزيعها حتى ولو هاجمت اليونان، حيث ان اليونان بلد ديموقراطى ولا يستطيع منع او تقييد الاعلام او الصحف اليونانية وذكر فى هذا الصدد ان رئيس الحكومة اليونانية والوزراء اليونانيين يتعرضون على الدوام للنقد والتشهير والى درجة ان زوجة رئيس الوزراء نفسها “ديمترا اليانى” لم تسلم من هذه الانتقادات والى درجة ان نشرت حتى صورها العارية.
وتفتـق ذهـن خبـراء اللجـان الثورية بالمكتب الشعبى الليبى باليونـان (بعـد ان فشلوا فى اقناع وزير الاعلام اليونانى بمنع دخول مجلة صوت الطليعة الى اليونان او توزيعها) عـن فكرة اعتقـدوا انها فكرة ذكية ستقضى على توزيع المجلة فى اليونان، فجنـدوا عـدد من الطلبة والعاملين المحليين بالمكتب الشعبى لشراء كل أعـداد المجلة من الاكشاك عند صدورها وتجميعها وحرقها بالمكتب الشعبى… الا ان اصحاب الاكشاك عندما فوجئوا بهذا القبال على شراء المجلة من أكشاكهم اعتبروا هذا التزاحم على شراء المجلة بهذه الصورة الفريدة هو بمثابة شعبية ورواج لها فزادوا من عدد الكميات المطلوبة… كما ان الكميات المشتراه والتى كانت تجمع بالمكتب الشعبى بغرض حرقها حرق جزء بسيط منها للمدارة بينما تسرب الباقى ليوزع من جديد خارج المكتب الشعبى بين المواطنين الليبيين.
ويعتبر كتاب “نماذج من جرائم القذافي”، الذى كتبه المرحوم ناصر مسعود دريزة فى الثمانينات والذى لم يعلن عن اسمه عند نشر وتوزيع هذا الكتاب وانتشاره على نطاق واسع فى أعقاب تكون الحركة الوطنية حفاظا على حياته بسبب تواجده داخل التنظيم السرى للحركة الوطنية فى ليبيا، من أهم اصدارات الحركة الوطنية الليبية، نظراً لمصداقية ودقة المعلومات التي وردت فيه والتى شاهـدها المرحوم عبد الناصر مسعود دريزه بأم عينيه فى معسكر السابع من ابريل ببنغازى. والتى ذكرها فى كتابه على لسان شاهـد عيان، حيث تحـدث الكتاب عن ابشع مظاهر التعذيب التى مورست فى حق المواطن الليبى في أوائل الثمانينيات.
واشرفت انا شخصيا فى اليونان على مراجعة مسودة هذا الكتاب التى قدمت لى بصفة شخصية لمراجعتها وتسليمها بعد تنقيحها للطباعة والنشر… واتصلت بالاستاذ محمد السكر بالعراق الذى قدم الى اليونان من اجل هذا الموضوع وعرفته بالمرحوم ناصر دريزة مؤلف الكتاب وتسلم منه شخصيا بحضورى مسودة الكتاب المنقحة خـلال اجتماع سرى ضـم ثلاثتنا بمنطقة “كيفسيا” بالعاصمة اليونانية اثينـا، وأسهم الاستاذ محمد السكر بجهد كبير فى طباعة ونشر وتوزيع هذا الإصدار الهام عن طريق الحركة الوطنية الليبية.
والذى أريـد ان اصل اليه من خلال هذا السرد لتاريخ نضال الحركة الوطنية الليبية التى كانت تتربع على عرش الصدارة فى مواجهة ظلم الطاغية منذ تأسيسها أواخر عام 1980 ان هذا المناضل الوطنى الشريف الاستاذ محمد احمد السكر وهو احد رموزها الوطنية الذى امضى زهرة شبابه فى الكفاح والنضال من اجل الوطـن وشـرد هـو وافراد اسرته لاكثر من ربع قرن فى عهد الطاغية كما تعرض للملاحقة ومحاولات الاغتيال من قبل أعـوان النظام فى اليونـان، أضافة الى ان الطاغية أرسل فى طلبه مع عدد من رفاقه من صدام حسين مقابل مساومات وعروض مغرية قدمت لصدام حسين من قبل مبعوثه الخاص ابوزيد عمر دورده… ومنها على سبيل المثال لا الحصر “استعداد ليبيا للتوقف عن دعم ايران او تزويدها بالصواريخ” الا أن صدام حسين رفض ان يستجيب لطلبه وطرد ابوزيد دورده من العراق شر طرده وأراجعه الى قائده يجر اذيال الفشل والخيبة.
هذا المناضل الشريف محمد احمد السكر الذى تعرض ايضا منزله للهدم والتدمير لم يزاحم اليوم المزايدين وطلاب السلطة على الكراسى او المناصب وانما انزوى بعيد ا عن الاضواء بعـد هـذه الرحلة الطويلة الشاقة من النضال المشرف من اجل وطنه ليبيا.
ولا يسعنى وانا انهى مقالى هذا بعد ان استعرضت جزء مما اعرفه عنه، إلا أن أحييه من منبر ليبيا المستقبل.. التى كانت السباقة دائما الى ازالة غبار النسيان والاهمال عن خبايـا واحـداث التاريخ متمنيا لـه ولأسرته الفاضلة حياة استقرار هادئة فى ليبيا الجديــدة.